الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الثلاثاء  6 شوال  1445 - Tues  16 Apr 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
الرئيسية   أرشيف  > حقيقة الوحي و كيفية نزوله على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله

حقيقة الوحي و كيفية نزوله على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله


______________________________________________________________
المحاضرة رقم 165

من سلسلة شرح رواية عنوان البصري

القسم الأول

 

سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

صباح الجمعة: 15/ ربيع الأول / 1430 هـ.ق

______________________________________________________________

مواضيع المحاضرة

القسم الأول
ضرورة رياضة النفس
خطورة السعي وراء الشهرة والسمعة
كيفية نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وآله
العبارات التي يلقيها الأولياء عميقة جداً
الذي قام بصياغة القرآن هو الله سبحانه وتعالى
 
القسم الثاني
كيفية صياغة الوحي ووضعه في قالب الألفاظ
نفس رسول الله تعكس الحقائق الواقعية بشكل تام
بعض أشكال الرشوة
مقام الأولياء الإلهيّين هو عين الطهارة التي بواسطتها يتنزّل الوحي
القسم الثالث
الواقعية تنشأ من النفس القدسية لرسول الله
النوروز ليس عيداً إسلامياً
كل ما يتسبّب في أذية الآخرين فهو حرام

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين




ضرورة رياضة النفس
يقول الإمام الصادق عليه السلام ضمن توصياته لعنوان البصري:
((ثلاثة في رياضة النفس))، وهذه الثلاثة تتعلّق بالمأكولات.
تقدّم أنّ مسألة الرياضة: عبارة عن التحرّك والالتفاف, والمواجهة مع النزعات والرغبات النفسية، وهذه المواجهة لا تختصّ بالمأكولات فحسب، وإنّما هي أمر عام وشامل، وقد بيّن الإمام عليه السلام ذلك، غاية الأمر أنّه راعى الغالب، حيث أنّ الناس لهم تعلّق واهتمام خاصّ بالطعام، لذلك قام الإمام بالتنبيه على هذا المورد الخاص.
وإن شاء الله سوف نبيّن في المستقبل القريب بعض التوضيحات المتعلّقة بهذا الموضوع, وذلك استناداً إلى ممشى الأولياء الإلهيين وطريقتهم في الرياضة والمجاهدة، كما سنبين منهجهم في كيفية تناول الطعام وكميّة الأكل وما يتعلّق بذلك.
وفي الجلسات السابقة كنّا قد ذكرنا للإخوان، أنّ الرياضة مشتقة من: راضَ يروضُ روضاً ورياضةً، بمعنى: التنقّل والتحرّك، فهذا التنقّل النفسي والحركة النفسية من الممكن أن تحصل في جميع الأحوال، سواء كانت هذه الحركة مناسبة وصحيحة أم لم تكن كذلك، لذا فإنّ ما يُطرح في مبحث رياضة النفس، هو دراسة كيفية الرياضة وأسلوب وآلية مواجهة النفس، و ذلك من نواحي عديدة؛ كلزوم مراقبة النفس, والتجوّل في أرجائها وتفحّصها, ومحاسبتها ومحاكمتها، كذلك من ناحية تعلّق النفس واشتياقها إلى ملذاتها، و على هذا الأساس يفترض على الإنسان أن يحدّد اتجاه سيره وحركته و أن يراقب نفسه من هذه الناحية.
فالنفس لها اشتياق وتعلّق وميل إلى العديد من المسائل، وهذا الأمر واضح في المسائل الجسميّة والبدنيّة، حيث أنّ النفس تتعلّق بكلّ ما يوجب الالتذاذ النفساني من النكاح والزواج وكذلك المأكولات والمشروبات وتشتاق إليه، وكذلك مشاهدة المناظر الجميلة، وشمّ الروائح المستحسنة والعطرة، أو استماع الأصوات والنغمات الساحرة. و نحن سوف نبيّن ذلك إن شاء الله، وسنبيّن كيفيّة تأثير الصوت على النفس، وكذلك المناظر الجميلة كم لها أثر على تلطيف الروح! وكذلك الروائح العطرة كيف أنّها تؤثّر على النفس، وتهيئ أرضيّة خاصّة للإنسان تجعله يتقبّل بعض المسائل بصدر رحب. ففرق بين أن يكون الإنسان في محيط تفوح فيه رائحة جميلة، وبين أن يكون في مكان رائحته كريهة ونتنة، فجميع ذلك له تأثير على الإنسان، و مثل ذلك الأصوات: فهي تؤثّر على نفس الإنسان.
عند الحديث عن ذلك سوف نتعرّض إلى موضوع الموسيقى وحرمتها، وكيفية تأثيرها على حركة الإنسان، وكذلك المشاهد التي يراها الإنسان بعينيه، ومدى تأثير النظر على الإنسان، فالنظر إمّا أن يؤثّر إيجاباً على تجرّد النفس وتسريع حركتها، وإمّا أن يوجب سقوط الإنسان ويمنع حركته ويستوجب وقوفه.
إنّ كلّ هذه الأمور مرتبطة بالأمور الفيزيائيّة التي تتعلّق ببدن الإنسان.
في مقابل ذلك، تشتاق النفس إلى أمور من نوع آخر وتلتذّ بها، مثلاً: الاهتمام بالشخصية وكون الإنسان محبوباً أمام الأفراد والأصدقاء، وكذلك الحرص على أن يكون مورد اهتمام الآخرين والتفاتهم، وكحرصه على الصيت والسمعة والشهرة وكونه معروفاً ومشهوراً، وكون اسمه شائعاً ومذكوراً في كل مكان.

 

 العودة الى قائمة المواضيع


خطورة السعي وراء الشهرة والسمعة
رحم الله العلماء الماضين، حيث أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه، قال لي ـ وبأشكال مختلفة ـ خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، فهذا الأمر قد تكرر منه خصوصاً في أواخر حياته عدّة مرّات، أذكر أنّه ذات مرّة كنت قد وصلت إلى منزل الوالد بعد الظهر، فاتفق وقوع أمر معيّن، ولم يكن أحد آخر غيري مطلعاً على ما جرى، وكان ذلك الأمر على مشارف التحقق والوقوع، وكان سيتسبب في تغيير مكانتي، وفي أن أصبح مشهوراً ومعروفاً، ولم يكن أحد مطلعاً على هذا الأمر، فما إن وصلت بعد الظهر لأكون بخدمته طبقاً للعادة الجارية، حتّى خرج والدي من الغرفة التي كان فيها إلى الغرفة الثانية، واستقبلني هناك فسلمنا على بعضنا وقال لي:
(( إذا أردتَ خير الدنيا فلا تكن معروفاً! وإن ترد خير الآخرة فابق غير معروف أيضاً!)) قال لي ذلك ثمّ ذهب.
مما لا شكّ فيه أنّ إرادة الله في بعض الأوقات تقتضي أن يكون الإنسان معروفاً ومشهوراً، وهذا الأمر على حدة؛ كأن تكون إرادة الله في أن يذهب إلى هنا و هناك و أن يتحدث، وهذا الأمر على حدة. ولكن في بعض الأحيان يسعى الإنسان هو بنفسه، نفس الإنسان يقدم على بعض الأعمال لأجل الشهرة و ذياع الصيت، فهذا الإنسان هو من قام بأعماله تلك! بعد ذلك يتصرّف وكأنّه ساذج و بسيط جداً، ثم يرميها على الله! هو يقوم بالفعل، ثم يقول: هذه إرادة الله! كان هذا تكليفاً! لم يكن هناك من حيلة!
لا يا عزيزي! لم تكن هذه إرادة الله، بل كانت إرادة المسؤول عن العمل. وليست إرادة الله، وإنّما إرادة الله هي بأن تجلس في المنزل وأن لا تحرك ساكناً.
ولكن، كل ما في الأمر هو أننا نتخيّل بأن الأشياء كافة يجب أن تكون تحت سيطرتنا، حتى جبرائيل و ميكائيل يجب أن يكونا تحت سيطرتنا، لكن الأمر ليس كما نتصوّر.
بكل الأحوال، إنّ جميع هذا الشقاء وهذه المآسي التي تواجه الإنسان في حركته وسيره ـ والتي تسلب الإنسان سعادته، وقد تؤول به إلى الخسران والشقاءـ هي من جرّاء ذلك، فالنفس تشعر باللذّة من الشهرة، مثلاً يقولون لأحد الأشخاص:
(( لقد كنّا في المجلس (الفلاني) وقد ذُكر اسمك، وقاموا بمدحك..))، فيتبسّم الإنسان بسمة الرضا، و إذا لم يفعل، وأظهر بعض التجهم في الظاهر وقال (( لا، لماذا ...؟)) إلاّ أنّه في باطنه يقول: ((جيّد، الحمد لله أنّ اسمي موجود هناك، وموضوعي ورأيي واقتراحي قد طُرح))، كذلك لو قيل: ((يا فلان، لقد رأينا نتاجك الفلاني في المكان الفلاني)) ، جميع هذه الأمور توجب الفرحة والترحيب عند الإنسان، سواءً تبسّم في الظاهر أم كانت ابتسامته في الباطن أكبر بكثير، فلا فرق في كلا الحالتين، فالأمر واحد والتفاوت هو من حيث الظاهر و الباطن، بينما أصل الموضوع واحد. وعلى الإنسان إذا ما حصل حديثٌ معيّن في مكان ما و طرحت مسألة معيّنة أو حصل مديحٌ ما, فينبغي أن يرى ذلك من الله، وإذا ما وُجّه إليه لومٌ أو انتقادٌ في مجلس آخر، فينبغي أن لا ينزعج.
قال البعض لهذا العبد: لقد قالوا في المكان الفلاني عن كتابك الآراء الفلانيّة، ويتحدثون عنه و ]ينتقدونه[ بالكلام الفلاني. فقلت لهم: أنا لم أكتب لهؤلاء، لذا لا أشعر بالانزعاج سواءً أكان رأيهم إيجابيّاً أم سلبيّاً. بل لو كان رأيهم بالنسبة للكتاب إيجابيّاً, فعندها ينبغي أن أتعجّب من ذلك؛ فهذا الكتاب الذي كتبت, وهذا الكلام الذي أتكلّم به الآن, موجّه إلى فئة معيّنة من الأفراد، وهم الذين سيفرحون به.
كان للمرحوم العلامة رضوان الله عليه كتباً، وكان هناك أخذ ورد فيما يتعلّق بتلك الكتب، ففي المجمل هناك الكثير ممّن لم يستطع تقبّل ما ورد فيها. وهو كان يقول:
(( إذا لم يرضوا، فلا بأس؛ دعهم لا يرضون؛ فهل نحن من الأصل كنّا قد كتبنا هذه المواضيع لأجلهم؟! بحيث يريدون الآن أن يقبلوا بها؟! نحن إنّما كتبنا هذه المواضيع لأجل- تنبّهوا! هذا هو العارف، وهذا هو وليّ الله، حيث لا يرى المسائل من نفسه، ولا ينسبها إلى نفسه، وإنّما يرى أنّ هذه المواضيع من مكان آخر- نحن إنما كتبنا هذه المواضيع للأشخاص الذين لم تغلق نافذة قلوبهم اتجاه الأمور الواقعية والحقيقيّة- هل التفتّم إلى دقّة المسألة؟! - نحن كتبنا هذه المواضيع للأشخاص الذين لم يسدّوا الطريق بينهم وبين الله، نحن كتبنا لهؤلاء)).
جيّد.. لو جاء هؤلاء وقرؤوا وانتقدوا و ذمّوا، حينئذ يمكن أن نتعجّب. أمّا إذا لم يكن الأمر كذلك فجاء أفراد آخرون ممّن قلوبهم مسدودة ومقفلة، ولا يريدون أن يستمعوا إلى الحقيقة، ولا يريدون أن يدركوا الواقعيّة، فما إن تتراءى لهم الحقيقة و تتضّح لهم، فإنّهم يغمضون أعينهم ويذهبون إلى الفكرة اللاحقة، وما إن يطرق سمع أحدهم مطلباً مخالفاً لما يعتقد، تجده يثني رأسه ويجعل أصابعه في آذانه، ويقفز إلى القسم الثاني من الكلام. إنّ هؤلاء الأفراد ينبغي أن يذموا! وهذا أمر طبيعي جداً، وهذه المعادلة معادلة بسيطة وطبيعيّة.
 

 العودة الى قائمة المواضيع

 


كيفية نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وآله

لمن نزل القرآن الكريم؟ هل هو للكفّار؟ لا..
هل هو للمشركين؟ لا..
ليس المقصود من الكفّار و المشركين أُولئك الكفّار و المشركين المعروفين، لا، بل المراد من الكفار هنا: أُولئك الذين يثبتون على حالة الكفر وإغلاق عقولهم وأفهامهم، يعني الذين يريدون أن يبقوا نائمين، فالقرآن لم ينزل لهؤلاء، والله وبالله.. أقسم أنّه لم ينزل حرف واحد من القرآن لأجل هؤلاء الأفراد، لماذا؟ لأنّه نقض للغرض, وهو معنى قوله تعالى: { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } 1 ، فهذا الكتاب نزل من عند الله، ونزل على أساس الطهارة، فمن أوّل {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، إلى آخر سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إنّما هو قائم على أساس الطهارة والعصمة، وهذه الحروف نزلت على أساس الطهارة، فلو بقيت هذه الحقائق والمعاني في ذاك العالم المتعالي، فهل كان يمكننا أن نطّلع عليها؟! بالطبع لا، ولولا أنّها نزلت على قلب النبيّ فهل كان بإمكاننا أن نطلّع عليها؟! أبداً! فرتبة الطهارة، وطهارة السرّ في اللوح المحفوظ حيث الطهارة الواقعية لا مجرّد الحروف، فهذا القرآن هو القرآن المستقرّ هناك، لكن بعد تغييره بصورة لفظية، وتحويله إلى كلمات، صار بهذا الشكل، وللتقريب أطرح هذا المثال: حينما تواجهون واقعاً معيناً، وتشاهدون قضية معينة...، افرضوا مثلاً أنّكم لمّا جئتم من طهران إلى قم من أجل زيارة حضرة السيدة المعصومة سلام الله عليها بالدرجة الأولى، ثمّ للمشاركة بهذا المجلس بالدرجة الثانية، صحيح؟! ينبغي أن يراعي الإنسان المراتب! فمن يأتي إلى قم ينبغي أن يكون قصده الأول هو زيارة حضرة السيدة المعصومة، ذاك هو المهم! ذاك هو الأصل! وسماع المحاضرة فرع! فلو حصلت آثار تلك الزيارة فسوف نستفيد من هذا المجلس، وإلاّ فلو لم نقم بزيارة حضرة السيدة المعصومة سلام الله عليها، فلن نستفيد من هذا المجلس أبداً أبداً...، فالهدف هو زيارة السيدة المعصومة، نعم على هامش ذلك نسمع بعض الكلمات، ونرى الأصدقاء والإخوة، ونتبادل المواضيع ونأنس بالأصدقاء و الأحبة... وهذا أمر آخر، وينبغي للإخوة أن يراعوا هذه المسألة ويلتفتوا إليها.
فهذه المسافة التي قطعناها- ووصلنا إلى هنا- كانت مسافة حقيقيّة وواقعيّة، فقد رأينا في هذه الصحراء جبلاً، رأينا صحراء، رأينا غيماً، رأينا سيّارةً، وافرضوا أنّنا شاهدنا أيضاً مطراً وثلوجاً، وكذلك رأينا شمساً، وأحسسنا بالحرارة، كذلك العديد من المسائل الأخرى، فإلى هذا الحد كان هناك العديد من المسائل، بعد ذلك نأتي ونبدّل جميع هذه المسائل التي شاهدناها إلى لغةٍ وكلام، فنعبّر عن جميع ما شاهدناه في سفرنا الطويل ببعض العبارات الكلاميّة والحرفيّة، هل التفتّم إلى المعنى المقصود؟ فذاك
((الجبل)) الذي شاهدناه، نبدّله إلى ثلاثة حروف: (ج) و (ب) و (ل)، إنّ هذه الحروف تكتسب واقعيّتها من الواقع الخارجي، فهي بمثابة الوكيل والنائب الذي يمثّل تلك الحقائق الخارجية التي شاهدناها وسمعناها؛ فقد سمعنا وشاهدنا ولمسنا، والآن قمنا بتبديل هذه الحقائق والوقائع إلى وُجودات لفظيّة.
كذلك الأمر بالنسبة للقرآن الكريم، فجميع الحروف الجارية على لسان النبي، كقوله صلى الله عليه وآله: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، فالـ (ب) والـ (س) والـ (م) والـ (أ) والـ(ل)... جميع هذه الحروف الجارية على لسان النبيّ، إنّما تحكي واقعية معيّنة موجودة ومتحقّقة في قلب النبي.
التفتوا! أولئك الأشخاص الذين يقولون: إنّ الكلمات تجري على قلب النبيّ دون أن يكون هناك حقيقة وواقعية وراء ذلك، أولئك لا علم لهم بحقيقة الوحي ولا معرفة لهم بذلك. فحقيقة الوحي المتحقّقة في وجود رسول الله تختلف عن تلك الحروف التي نسمعها, وتختلف معها من السماء إلى الأرض، فالقرآن الذي نتلوه ونقرؤه هو مجرّد حروف فقط لا غير، فهو لا يشتمل على الجبل الخارجي وليس فيه صحراء، ولا يشتمل على سماء، وليس فيه بحرٌ، ولا جبرائيل ولا ميكائيل، وهو لا يشتمل على العوالم الربوبية، فجميع هذه الحروف الواردة في القرآن عبارة عن ممثّل ونائب معرّف لتلك الحقائق النازلة على قلب رسول الله، ورسول الله إنّما يقوم ببيان هذه الألفاظ على ضوء هذه الحقائق الموجودة والواقعية فيبيّنها لي ولكم.
نعم هناك فرق بين هذه الألفاظ وبين سائر الألفاظ التي أجرى رسول الله الحديث بها!
يعني: صحيح أنّ النبيّ في الموارد العاديّة ـ سوى القرآن ـ إنّما يحكي الواقع أيضاً؛ فهو بكلامه يخبر عن الواقع، ويبيّن المسائل الخارجية من خلال الكلمات؛ ففي وقعة مؤتة مثلاً: كان النبيّ في المدينة وكان يبيّن حوادث ومجريات واقعة مؤتة للناس، ولكننا لا نسمّي هذا الكلام
((آيات القرآن)) ، بل هي كلمات عاديّة كسائر الكلمات التي يتلفّظ بها الإنسان في الليل والنهار، أو يخبر بواسطتها عن الوقائع الخارجيّة اليومية، ويبيّن أفكاره من خلالها للآخرين أثناء تحدثه معهم ومعاشرته لهم واختلاطه بهم.
 

 العودة الى قائمة المواضيع

 

 

العبارات التي يلقيها الأولياء عميقة جداً
هناك مراتب مختلفة؛ فالواقعية المتنزّلة على قلب رسول الله المتعلّقة بالقضايا الواقعية تختلف فيما بينها، وهذه الفكرة دقيقةٌ جداً وفيها نكات دقيقة ولطيفة جداً, حيث يجدر بالإخوة والفضلاء أن يتأمّلوا بها ويبلغوا أعماقها، فما هي العلة المؤدّية للتمييز بين كلمات القرآن عن كلمات نفس رسول الله؟ مع أنّها جميعاً تحاكي الواقع الخارجي، ومع أنّ كلتاها تحاكي الحقيقة الخارجية؟ كذلك الأمر بالنسبة لكلام العرفاء والأولياء؛ كالأفكار والحقائق التي يبيّنها العرفاء والأولياء ويذكرونها في كتبهم.
فهل هذه الحالات هي حالاتهم الخاصة بهم التي قاموا ببيانها؟!
إنّ مواضيعهم ومشاهداتهم هي أيضاً غير خارجة عن هذه القاعدة، فما هو الفرق بين القرآن وكلمات الأولياء الإلهيين والعرفاء بالله؟
هل يكمن الفارق في كيفية عرض الكلام وسبكه في جملة خاصّة وقالب خاصّ مثلاً؟ بحيث: يكون حرف الفاء واقعاً قبل حرف التاء مثلاً! فلا يمكن أن تكون التاء سابقة حرف الفاء؟! هل الفرق بينهما يكمن في ذلك فحسب؟!
حسناً، لو كان كذلك، فهو ليس مهمٌ جداً، وحيث أنّ ذلك يرجع إلى كيفيّة التركيب والتأليف والإخراج و(المونتاج)، وهو ما يفعله الشاعر في شعره الذي يُلقيه، فحينما يريد أن يبيّن مفهوماً معيّناً، فقد يبيّنه تارة بواسطة ثلاثة أو أربعة أسطر، أو حتّى بسطر واحد، وتارة أخرى قد يبيّنه بقصيدة شعر منظومة.
كان المرحوم الوالد يقول: ((إنّ بعض أشعار جناب حافظ 2 تحتاج إلى شرح بمقدار مجلّد كامل)) ، ومن جملتها مثلاً هذه القصيدة التي تبدأ بـ:
 

الا يا ايها الساقي ادر كأسا وناولها   كه عشق آسان نود اول ولى افتاد مشگلها
به بوى نافه اى كآخر صبا زان طرّه بگاشيد   ز تاب جعد مشگينش چه خون افتاد در دلها
به مى سجاده رنكين كن گرت بيرمغان گويد   كه سالک بى خبر نبود ز راه و رسم منزلها 3



قال حول بيت الشعر الأخير: إنّه يحتاج إلى كتاب كامل يشرحه.
حسناً، أمّا أنا لا أقدر على شرحه وبيانه، يعني: أقصى ما أستطيع بيانه هو أن أتكلّم مثلاً لمدة ساعة حول مضامينه وأبيّن ذلك للإخوة؛ ولكنّ ساعة واحدة لا تبلغ حجم كتاب كامل، ولو أردت أن أضيف فقد يصل إلى أربعين أو خمسين صفحة، ولكن هل يبلغ ذاك الحدّ الذي يفهمه ذاك الشخص، أو الذي يدركه العارف والولي؟! بحيث يلاحظ جميع ما ينطوي عليه من إعجاز في كلّ كلمة كلمة...
وأنا عندما كنت أفكّر بهذا الشعر في وقت من الأوقات ، قلت في نفسي: لم لا نفكّر قليلاً بهذا الشعر لنرى ما الذي يخطر على البال، فرأيت أنّه مهما فكرت فإنّ آفاقاً جديدةً تنفتح وبالتالي لن يستطيع الإنسان على حصر المسألة، وكلّما غاص وتعمّق أكثر فإنّه يجد أبواباً جديدة أمامه ولكن لا يصل إلى حدّ تنتهي معه المعاني بحيث يمكننا أن ننسب ذلك إلى الشاعر حافظ ثم ندّعي بأنّ هذا هو مراده النهائي، فما إن تبلغ ذلك تجد أنّ هناك معنى آخر أعلى من ذلك، وترى نفسك أمام أفق جديد، وما إن تدخل في ذلك الأفق، حتى ترى أنّ هناك مسألة أخرى أيضا وهكذا...، وفي آخر المطاف تركت الأمر ورأيت أن التفكير والتأمل في ذلك غير منتج.
إنّ المقدار الذي يمكن أن أقوله: إنّ حافظ بيّن ووضّح مراتب قوسي الصعود والنزول بتمامها في هذا السطر من الشعر، وهي تشتمل على بيان حقيقة مجيئنا؛ { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وكيفيّة هبوطنا من الجنّة، ثمّ العيش في هذه الدنيا وأكل الحنطة، والهجران، والابتعاد عن ذاك الهدف، والفراق، وألم الفراق، والهجران، ثمّ بروز العشق بغية الوصال، وآثاره ومستلزماته، وما يستتبع ذلك من تحمّل المشاقّ والصدمات في هذا الطريق، وكل ما يحصل في هذا الطريق...، جميع ذلك كان قد أخفاه في هذا البيت من الشعر.
حسناً! من الذي يستطيع أن يفهم ذلك؟!
إنّ آلاف الآلاف من الأشخاص يأتون ويقرؤون شعر حافظ، ويضمّون إليه الموسيقى، ويقرؤونه مع الدف والوتر، إنّهم لا يفهمون أنّ حافظ مشمئز منهم! وأنّه يلعنهم إلى يوم القيامة، حيث أنّهم يلوّثون هذه الأشعار التي ينبغي أن تقدّم للناس مع الرَوْح والريحان، فهم يأتون ويلوثونها ويقرؤونها بالوتر والطنبور!
عزيزي! أشعار الطبل والطنبور كثيرة، استفيدوا من تلك الهرطقات التي تناسب ذلك، فلماذا يأتي الإنسان إلى أشعار حافظ ليلوّثها بالآلات الموسيقية ويخرّبها ويميتها ويشوّهها؟! لماذا يقوم الناس بذلك؟!
يمكن للإنسان أن يقرأ هذه الأشعار بأفضل صوت وأحسن أداء، فما الإشكال بذلك؟ فكلّما كان الصوت أحسن كان أفضل، وهي لا تحتاج إلى ضميمة شيء آخر إليها. وفي الواقع، كان الأولياء يرغبون في الاستماع إلى الأصوات الجميلة، ويرون أنّ للكثير منها تأثيراً على الإنسان.
وعلى كل حال، نترك البحث في هذه المسألة إلى وقت آخر وفرصة أخرى- إن شاء الله- وعندها سنتناول المضارّ المترتّبة على الإنسان إذا استمع للصوت الجميل الذي يكون مقترناً بالموسيقى.
هذا الشعر يتضمّن معاني عالية، وهذا الشاعر قد جمع هذه المفاهيم الرائعة وصاغها وبيّنها في شعرٍ عذب، فهل يمكن القول: إنّ القرآن أيضاً هو من قبيل هذه الأشعار، إلاّ أنّ القرآن في مرتبة أعلى منه؟ كلاّ، ليس الأمر كذلك.
ألا يمكننا من الناحية الشرعيّة أن نلمس كلمات وحروف هذه الأشعار التي وردتنا عن الأولياء بدون وضوء؟
طبعاً يمكننا ذلك ـ وإن كان احترام كلام الأولياء والتأدّب معهم ومعاملتهم بأخلاق حسنة يقتضي خلاف ذلك، فكلام الأولياء الإلهيين محترم ومعزّز، وعلى الإنسان أن يتعامل معها بطهارة، ولكن من وجهة نظر الحكم الشرعي الظاهري لا يمكننا أن نلمس القرآن بدون وضوء، بينما يمكننا ذلك مع الأشعار. وهذا أمر طبيعي وحكم ظاهري ـ فلماذا لا يمكننا أن نلمس كلام القرآن بدون وضوء؟ فهل هذا حكم ظاهري؟ أليس له منشأ وعلّة؟

 

 العودة الى قائمة المواضيع

 


الذي قام بصياغة القرآن هو الله سبحانه وتعالى
أم أنّ حقيقة المسألة هي: أنّ هذه الحقائق التي نزلت الآن وتمّ نظمها على هيئة هذه الألفاظ القرآنية؛ لم يكن جبرائيل هو الذي صاغها و رتّبها أو عمل لها (مونتاجاً) كما يفعل الشاعر، لا أبداً، ولم يقم ميكائيل بعمل (مونتاج) لها، ولا عزرائيل، ولا جبرائيل، ولا حتى النبي نفسه!
إنّ الذي صاغ هذه الكلمات ورتّبها بهذا الترتيب هو ذات الباري تعالى بنفسه، نفس تلك الذات هي التي أخرجت تلك الحقائق من العوالم الربوبيّة عبر أسمائه وصفاته الكليّة إلى منصّة الظهور والتحقّق وعالم التكوين. وبما أنّ تلك الحقائق تشمل جميع مراتب عالم الوجود، فقد نزلت الكلمات و الحروف على قلب رسول الله بهذه الكيفيّة؛ دون زيادة كلمة أو نقصان كلمة واحدة، بحيث أنّنا لو أردنا أن نبدّل كلمة مكان كلمة لاختل الأمر كلّه؛ فإذا فرضنا مثلاً أنّنا غيّرنا عبارة: {والله عليم حكيم} 4  في الآية بعبارة: هو العليم الحكيم، فسوف يختلّ النظام بأجمعه. وكذا في الآية التي تقول {إنّه كان بعباده خبيراً بصيراً}5 ، لو قلنا بدلاً من ذلك: بصيراً خبيراً؛ باعتبار أنّ المراد بالخبير هو أنّه تعالى لديه خبر واطلاع، وبالبصير أن لديه بصر، فإنّه في هذه الحالة تختلّ الأمور جميعاً، وكذا إذا قلنا في آية {المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات}6 : المنافقات والمنافقين، أو أن نأتي بالمشركين والمشركات أولاً!
إنّ المسألة ليست من هذا القبيل أبداً، بل إنّ كل آية من آيات القرآن تنطبق مع تلك الحقائق التي تحكي عنها وفق نظام خاص، و الشخص الذي يستطيع أن يدرك هذا النظام هو من يطّلع على تلك الحقائق، ومن يطّلع على تلك الحقائق ويريد أن يقرأ آية من القرآن مثلاً، فسوف يلتزم حتماً بأن يأتي بالفاء أولاً ثم بالتاء، أو أن يأتي بالمنافقين أولاً ثم بالمشركين، ولن يمكنه أن يقول خلاف ذلك؛ بأن يقدّم المشركين على المنافقين.

 العودة الى قائمة المواضيع

 

القسم  الثاني  من  المحاضرة

 


[1] سورة الواقعة (56)، الآيات 79 و 80.
[2] وهو شمس الدين محمد بن محمد الشيرازي، المعروف بحافظ الشيرازي رضوان الله عليه، عاش بين ۷۲۷-۷۹۲ هجري قمری ، ولديه ديوان يطلق عليه اسم (ديوان حافظ)، أغلب أشعاره كانت في الغزل العرفاني.
[3] المعنى:
 ألا يا أيّها السّاقي أدر كأسا وناولها، فالعشق بدا لي سهلاً في أول الأمر، ولكن بعد ذلك أوقعني في المشاكل والابتلاءات.
 وفي النهاية ومع ما هي عليه من المسك والرائحة المعطّرة إلا أنّه انقلب الأمر إلى دم وحرقة من شعيرات (ذلك المسك).
 فهل يتصوّر أمن أو راحة في منزل الأحبّة؟ بل يصفوا المزاج في لحظة من اللحظات وأنت تعيش تحت وطأة الجرس الذي يتهددك كل لحظة بصرخاته قائلا: اشدد حيازيمك وارحل من هنا!
 
[4]  سورة النساء، الآية 26، والأنفال الآية 71، والتوبة الآيات: 15 و 60 و 106 و 110، والحج الآية 52، والنور الآيات 18 و 58 و 59، والحجرات الآية 8، والممتحنة الآية 10.
[5] سورة الإسراء، الآيات 30 و 96.
[6] سورة الأحزاب، الآية 73، والفتح، الآية 6.
 

چاپ ارسال به دوستان
 
الإستفتاء
الإسم:    
البريد الإلكترونيّ:    
التاریخ    
الموضوع:    
النص:    

أدخل الرمز أو العبارة التي تراها في هذه الصورة بدقة

اگر در دیدن این کد مشکل دارید با مدیر سایت تماس بگیرید 
عوض الرمز الجديد

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی