معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ ـ الجلسة 14: الوقوف بين يدي الله وقفة خالي الوفاض

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ

المحاضرة الرابعة عشر:
الوقوف بين يدي الله
وقفة خالي الوفاض

ألقيت في الليلة التاسعة والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1435 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد)
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائِهم أجمعين إلى يوم الدِّين

وَأَنا يا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنّاً[1]
لقد انتهى شهر رمضان، ولا زلنا في منعطف الزقاق الأول[2]. كنتُ مصمِّماً على الحديث عن فقرة "هارب منك إليك"، إلاّ أنَّ ذلك لم يحصل وسيتم تأجيله إلى العام القادم، إن شاء الله أن يمدَّ في أعمارنا، ولم يحصل بداءٌ، واقتضت المشيئة الإلهية ذلك. وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالفقرة الأخرى والتي يبدو أنَّنا لن نتمكّن من استيفاء البحث بشأنها، لذا سأسعى للحديث عنها هذه الليلة والليلة التالية إن حالفني التوفيق. لنرى ما الذي يُقدِّره الله لنا.
لفت أحد الأصدقاء انتباهي إلى الحكاية التي كنت قد نقلتها عن ذلك الشخص الذي حضر لدى المرحوم القاضي متسائلاً عن صحّة أو سقم تلك المبادئ التي يتبنّاها المرحوم القاضي. لكني لم أكن أقصد في سردي لتلك الحكاية ذلك الشخص الذي كان قد طرح المسألة بشكل آخر، وهو الذي يلتفّ حوله بعض الناس، والذي يبدو أنَّه كان قد طرح ذلك السؤال في لقائه الأول مع المرحوم القاضي. بل أقصد شخصاً آخر لم يكن من المعمّمين، وكان قد أمضى عدة سنوات في التردّد على المرحوم القاضي، ثم يأتي بعد هذا ليطرح هكذا سؤال. ويمكن أن تكون نفس هذه الحكاية قد حصلت لشخصين متفاوتين.

    

حرص المرحوم العلامة على دعوة الجميع إلى هذه المائدة

كان ذلك الصديق يتساءل؛ إن كان المقصود هو ذلك الشخص المعمّم والذي يعرفه الكثيرون وقد توفي، فقد كانت تربطه علاقة بالمرحوم القاضي، وبالمرحوم الحدّاد والمرحوم الوالد بعد ذلك؛ غير أنَّ علاقته قد قُطعت مع المرحوم الوالد في أواخر حياته، وعلى الرغم مما بذله المرحوم العلاّمة من جهد لإقناعه بتقبّل ولاية المرحوم الحدّاد، إلاّ إنَّه لم يتقبّل ذلك؛ لذا قطع المرحوم العلاّمة علاقته به. لكن لا يعني ذلك أنه قطع كامل العلاقة به، بل يعني إنَّها لم تعد تلك العلاقة المتواصلة التي كانت في السابق؛ حيث كان ذلك الشخص يحضر بين الفينة والأخرى لزيارته. فالمرحوم العلاّمة لم يقطع علاقته مع أحدّ بتلك الصورة، ولقد كان حاله هذا عجيباً حقاً.
لقد كان يريد من الجميع أن يجلسوا حول تلك المائدة التي يجلس عليها ليستفيدوا منها؛ أمّا نحن فلسنا كذلك، فإن عثرنا على نورٍ، فإنَّنا نسعى على أن يكون ذلك النور خاصاً بنا؛ وإن عثرنا على مُرشدٍ، فنحن نحاول أن نجعل منه هادياً لنا وحدنا. ما هو مصدر هذا النور وتلك الهداية؟ فإن كان مصدره غيرك، فلماذا تبخل به أنت؟
عندما كنت طالباً أدرس في مدينة قم في العهد السابق ـ عهد حكومة الشاه ـ سمعتُ بأنَّ المرحوم العلاّمة الطباطبائي يُقيم مجلساً خاصاً أيام الخميس والجمعة، وكان يحضره الكثير من السادة؛ سواءً منهم الذين لا يزالون على قيد الحياة أو الذين ارتحلوا عن هذه الدنيا، وكانوا يطرحون أسئلتهم عليه وكان يجيب بدوره عن تلك الأسئلة. لقد كان المرحوم الوالد يوصيني كثيراً بالحضور في مجالسه، لكنه كان قد عطل دروسه الحوزوية في ذلك الوقت بسبب المشاكل الصحية التي كان يعاني منها، واقتصر الأمر على إقامة هذه المجالس التي كانت تُقام أحياناً في ليالي الخميس والجمعة، وفي صباح الخميس والجمعة في أحيانٍ أخرى؛ وكان البعض يحضر هذه المجالس.
زارني في إحدى الليالي أحد معارفي في الغرفة التي كنت أُقيم فيها، فسألته قائلاً: سمعت بأنَّ العلاّمة الطباطبائي يُقيم مجالس في الصباح ويحضرها بعض الأشخاص، وهو يتحدّث في هذه المجالس ويجري فيها سؤال وجواب. ولقد كان هذا الشخص ممن يحضر تلك المجالس. فقال: لا، كيف؟!لم اسمع بذلك! فقلت له: إنَّ أحد الأشخاص من الذين يحضرون هذا المجلس قد رآك هناك! ولكنه مع ذلك يقول لي: لا، متى كان ذلك، وكم من الأشخاص يحضرون المجلس؟ هل يحضره شخصان أم خمسة أشخاص؟ وأمثال ذلك.
ما دمت تحضر المجلس وتستفيد منه، فما هو شأنك إن أراد شخص آخر أن يحضر المجلس أو لا يحضره؟ ثم إنَّني لست بذلك الشخص الغريب الذي يُشكُّ في أمره، فأنا لست منتمياً لجهاز الأمن حتّى تخشى مني التجسّس والاطّلاع عمّا يجري هناك [لنقله إلى أجهزة السلطة]. فسأذهب لأجلس في إحدى زوايا المجلس، ولا أقوم بتوجيه أيّ سؤال. أيرضيك ذلك؟ ذلك لكي تكون مطمئناً.
لقد كنت أذهب وأجلس في زاوية من زوايا المجلس؛ لأستمع فقط دون أن أسأل أيّ سؤال؛ فلم يكن العلاّمة ليُجيب عن أسئلتي، فأنا مرتاح البال من هذه الناحية. فكنت قد سألته عدة أسئلة، وكان جوابه: لا أعلم! فلا أدري هل كان يعلم الجواب، ولم يكن يُجيب لمصلحة يراها، أم أنَّه لم يكن يعلم حقاً. وليس في ذلك ضير، فلسنا أئمة، فذلك الذي يعلم كلّ شيء هو الإمام وحده؛ فما المشكلة في كوننا لا نعلم أمراً ما؛ فقلت ما دام يقول: لا أعلم، فلن أسأل بعد ذلك، وأمّا فيما يتعلق ببعض الأسئلة التي أستطيع أن أجد جوابها بنفسي، فلماذا أقوم بالسؤال عنها؟ ولماذا أُضيِّع وقت المجلس بها؟
لقد كنت أجلس للاستماع وكنت أستفيد من المجلس. رحم الله المرحوم العلاّمة، فلقد كنت أستفيد حقاً من المواضيع التي كان يطرحها، بل كنت أستفيد من مجرد الحضور لديه والنظر إلى سيماء وجهه والاستئناس بشمائله وكيفية تكلّمه وتعامله مع الآخرين. لقد تعلّمت دروساً من كيفية تصرّف المرحوم العلاّمة واستفدّت منها كثيراً، هذا بغض النظر عن المواضيع التي كان يطرحها.
فهكذا هي طبيعة بعض الناس، فإن جاء فيض إلهي أو نور، تراهم يريدون أن يكون ذلك من نصيبهم فقط. أمّا المرحوم الوالد فلم يكن على هذه الشاكلة أبداً، بل كان يودّ أن يعُمَّ ذلك على الجميع، وكان يتمنّى أن يجلس الجميع على هذه المائدة. لقد كان في وضع خاص من الممكن أن يصعب تصوّره على البعض.

    

بيان الحقائق للناس دون إعمال الآراء الخاصة، وللبيت رب يحميه

أمّا نحن، فترانا نسعى للقيام بأعمال تحت ذريعة اقتضاء التكليف، ذلك الشعور الذي لا أساس له! فعندما يُسأل شخص: لماذا أقدمت على القيام بهذا العمل أو ذاك؟ تراه يقول: أنا أعتقد بأنّ تكليفي الشرعي يوجب عليَّ القيام به. وكأنَّه لا يوجد شيء عنده أدنى من الشعور بالتكليف لكي يتذرّع به. فإن كنَّا نشعر بأنَّ ما نقوم به كان بموجب التكليف، فعلينا الانتباه إلى أنَّ أدنى ما يمكننا أن نراعيه في هذا المجال هو ألاّ نخون الأمانة المتمثّلة بإيصال المطالب إلى الآخرين كما هي، وبدون خلط المواضيع مع بعضها للخروج بنتيجة مغايرة لمقصود القائل، وبدون أن نضيف عليها من عند أنفسنا شيئاً. فنحن خبراء في القيام باللف والدوران؛ لكي نجعل أمراً ما يتماشى مع الهدف الذي نسعى للوصول إليه، حتّى وإن كان الفرق بين ذلك المطلب الأصلي وما نريد الوصول إليه، هو كالفرق بين المشرق والمغرب؛ فذلك ليس بالأمر المهم، فالمهم هو حصول ما نصبو إليه. [فترانا نقول:] وما الضير في ذلك؟ نعم، هكذا تجري الأمور.
إنَّ أفضل ما يمكن أن يظهر منَّا من فضيلة هو ألاّ نرتكب خيانة بحق حرم الشريعة، وحرم الإمامة؛ وذلك بأن نقوم بنقل ما وصلنا عن الإمام إلى الآخرين بدون زيادة أو نقصان، وبدون انتقاءٍ لبعض المواضيع والإعراض عن البعض الآخر. فعلينا أنّ نقول للناس: هذا ما قاله الإمام! فإن شئتم فاعملوا بموجبه، وإن لم تشاؤوا فلا تعملوا، لا تعملوا به حتّى آخر أعماركم! لكن البعض يقول: إن قلنا ذلك للناس، فلن يتقبّلوه منّا أبداً.
إن لم يتقبّل الناس منا فلا يتقبّلوه. فلسنا بمنكرٍ ونكيرٍ موكّلين بالنّاس حتى نلزمهم بقبول ما نقوله. فالبعض لا يريد أن يتقبّل. إذ ما هو تكليفنا تجاه الشخص الذي لو جلس إمام الزمان إلى جنبه وقال له: افعل! لم يفعل؟ فإن لم يفعل، فلا يفعل؛ فلا شأن لأحد به في الوقت الحاضر؛ حتّى إذا ما ورد القبر، فسيُقال له: تعال لنقوم بتصفية الحساب معك، فقد أعطيناك مهلةً في الدنيا لتفعل ما تستطيع وما تشاء فعله. بل قد يتم الحساب في هذه الدنيا أيضاً. فلا يتأجّل الأمر إلى وقت ورود القبر، إذ قد يجري الحساب في الدنيا كذلك.
فسينتهي الأمر بعد الموت، وسيُسلب الاختيار من الإنسان، وعليه الإجابة عن الأعمال التي قام بها؛ الواحدة تلو الأخرى: فاليَومَ عَمَلٌ ولا حِسَاب، وغَداً حَسَابٌ ولا عَمَل[3]. وسيجري السؤال والمؤاخذة عن هذا العمر الذي وهبك الله إيّاه كيف صرفته في الدنيا.

    

قصة عن صعوبة الحساب في الآخرة

كنت برفقة المرحوم العلاّمة في مستشفى العيون، فقد رقد سماحته في مستشفيات متعدّدة وأقسام متعدّدة، ويمكن القول بأنّ ملفّه الطبِّي كان مكتملاً! لقد أجريت عملية جراحية لعينه في مستشفى لبافي نجاد في طهران، وكنت برفقته لمدة أسبوعين. وبعد مضي أسبوع [من إجراء العملية] قال لي يوماً: يحصل أن تتّضح للإنسان أمورٌ لم يكن ليراها حتّى في المنام.
متى كان ذلك؟! كان ذلك في أواخر عمره، لا أتذكّر الوقت على وجه الدقة، ولكنّه كان في الخمس أو الست سنوات الأخيرة من عمره. فلم يتبقَ لديه في ذلك الوقت شيء مخفي أو مبهم.
ثم قال: إنَّ ما يجري في الدنيا سيخضع للحساب الشديد، فلا بدّ من الدقّة بشأن ما يجري فيها، ولا بدّ من السعي لمعالجة الأمور، وعدم الإغماض عنها أو المرور عليها مرور الكرام. ثم أردف قائلاً: رأيت البارحة في المنام بأنَّني كنت أسير في صحراء بصحبة رجل ـ لن أذكر اسمه ـ ووصلنا إلى مكان؛ بحيث كان علينا العبور من نفقين كانا قد أُعدّا لنا للعبور من خلالهما؛ أما النفق المخصص لي فكان ارتفاعه أعلى من قامتي بقليل، وطوله بحدود العشرة أو العشرين متراً ـ شبيه بتلك الأنابيب الكبيرة؛ أرأيتم تلك الأنابيب كبيرة القطر؟ ـ ويؤدِّي هذا النفق إلى الآخرة والقيامة؛ أمَّا الطرف الذي نحن فيه فهو جانب الدنيا؛ حيث الشمس الحارقة والغبار والأتربة وغلبة العطش. وكان عليّ أن أعبر من ذلك النفق الذي كان بارتفاع قامتي وكنت أستطيع العبور من خلاله بكلّ يسر.
عندما وصلت إلى ذلك المكان، كان ذلك الشخص قد وصل قبلي ـ الحكاية بهذا الشكل ـ وكان النفق الذي أُعدَّ له ليعبر من خلاله عبارة عن أنبوب [بقطر يقارب العشرين سنتيمتراً]، فكيف سيعبر من خلال هذا الأنبوب؟ لقد كان ذلك النفق المعدُّ لي بمقدار قامتي، أي بقطر ما يُقارب المترين على سبيل المثال، وبطول عشرة أو عشرين متراً لا أكثر؛ بحيث أستطيع الدخول والعبور من خلاله، أمّا النفق المعدُّ لذلك الشخص فكان بذلك القطر وبطول مائة أو مائتي كيلومتراً! يا الله!!! فكيف سيعبر من خلاله والحال هذه؟ وكان عليه أن يعبر، إذ لا يوجد أمامه سبيل آخر ويجب أن يعبر.
فرأيت هذا الشخص يُحاول الدخول في الأنبوب، ولا يكاد يدخل من جسمه إلاّ رأسه أمّا أكتافه فكانت تعيقه عن الدخول، وكان يُحاول بشدّة غير أن أكتافه لم تكن تسمح له بذلك.
أترون كيف تكون الحال هناك؟ فهذا هو واقع الأمر، لذا علينا الحذر والانتباه. فلا نعمل ـ وكما قلت سابقاً ـ على دسّ رؤوسنا في الثلج كي لا يرانا أحد بحسب تصوّرنا؛ فهم يروننا جيداً. فقد وكَّل الله بنا ملكين؛ أحدهما على اليمين والآخر على اليسار؛ إن نام أحدهما أيقظه الآخر قائلاً: استيقظ فكاد النوم أن يغلبك! وإن نام الثاني أيقظه الأول! على أنَّه لا معنى للنوم واليقظة بالنسبة للملائكة {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[4].
قال المرحوم العلاّمة: إنَّ هذا الشخص كان يخرج رأسه من الأنبوب، وهو في حال من الإعياء والعرق يتصبَّبُ من وجهه ورأسه، ثم يعود ويُدخل رأسه مرة أخرى ويحاول العبور بقوة أكبر، ولكن بدون جدوى، فلم تكن أكتافه لتسمح له بالدخول وكان يُحاول وبكل طاقته؛ لكن لا حيلة له فلا بدَّ من أن يعبر من هذا المكان. عندما رأيته على هذا الحال رقّ قلبي له، غير أنَّني رأيت أنني لا أقدر على مساعدته. فالتفتَ إليّ قائلاً: أترى الحال التي أنا عليها يا سيِّد محمد حسين؟ قلت له: نعم، أرى ذلك! فقال: ماذا عليّ أن أفعل؟ قلت له: ألم أقل لك لا تحمل الثقل الذي لا طاقة لك على حمله، فلماذا لم تسمع كلامي؟ أستودعك الله. قال: أتذهب؟ قلت: لا بدَّ لي من الذهاب، فلا أستطيع البقاء في هذا المكان. ودخلت النفق الذي كان طوله عشرة أو عشرين متراً، وقطره بحدود المترين.
نعم، لقد كان ارتفاعه أكثر من طول قامة المرحوم العلاّمة بعدة سنتيمترات لكي يستطيع القفز أو المشي السريع؛ فقد أعطاه الله فسحة أكثر لكي يمشي بحريّة [مزاح].
هذا هو وضع دنيانا! فها أنت تتصرّف بحجة أداء التكليف المترتب عليك، فستجد أمامك أنبوباً لا تستطيع العبور من خلاله. إذ على المرء أن يكون يقظاً ومنتبهاً لتصرفاته.

    

سبب ما جرى للمرحوم العلامة من مرض في العينين

وبعد أن حكى لي هذا المنام، قال: شعرت صباح هذا اليوم بأنَّ لدي مشكلة.
يبدو أنَّ الموضوع الثاني لم يكن في المنام بل كان مكاشفةً. وأعتقد بأنَّ المرحوم العلاّمة قد أخبر البعض بهذا الموضوع، فقد سمعته من بعض الأشخاص أيضاً. نحن نتعجّب كثيراً عندما نسمع أحياناً بأنَّ رسول الله أو الأئمة ـ وفي الوقت الذي كانوا فيه حائزين على مقام الإمامة ـ يتعرّضون إلى المُساءلة من قبل الله. ولكن الأمر بهذه الكيفية، فالله يريد من الإمام أن يتصرّف بما يتناسب مع مقام إمامته. طبعاً الله لا ينتظر منَّا ما ينتظره من الإمام، فأين نحن منه! فلا توجد مقارنة بين مقام الإمام والوضع الذي نحن عليه. فأيّ مقارنة تلك؟ فأين هي سعتنا وإدراكنا وفهمنا وشعورنا ومعرفتنا مما هي عليه لدى الإمام؟ فسيضحك الله على حالنا ويقول: اعبر يا هذا. فلا يؤاخذنا الله على ما يؤاخذ عليه الرسول والأئمة، بل سيقول لنا: اعبر يا هذا وبسرعة، فلا شأن لي بك.
قال لي المرحوم العلاّمة: لديّ مشكلة، أتعرف فلاناً؟
وكان ذاك الرجل معماراً رحمه الله. كان هو المعمار الذي بنى البيت الواقع في طهران؛ أتذكَّرُ بأنَّ عمري في ذلك الوقت كان خمسة أعوام، فقد كان المرحوم العلاّمة يأخذني معه للتفرّج على العمال أثناء عملهم، لكي لا أقوم بالمشاغبة في البيت، وكان يحمّلني حجراً أحياناً لكي أعطيه للبنّاء. وأنا أتذكَّر جيداً كيف أنَّه كان يتجادل في كثير من الأوقات مع المعمار بشأن خارطة البناء وسير العمل، وكان يتكلّم معه بشأن بعض الأمور التي لم أكن أدركها. كنت أراهم يتجادلون؛ فهذا يقول شيئاً وذلك يجيبه بكلام آخر.
وكان المرحوم العلاّمة ذا تخصص فنِّي، وكان مهندساً؛ فعندما كان يطرح أمراً، لم يكن موقفه بالشكل الذي يكون فيه قابلاً للتفنيد من قبل الطرف الآخر.
كان المعمار يريد بناء درج من الصالة إلى سطح المنزل، فقال له المرحوم العلاّمة: عليك أن تبدأ ببناء الدرج من هذه النقطة، فقال المعمار: لا، بل سأبدأ به من النقطة التي تليها بمسافة نصف متر، فلم يقل له المرحوم العلاّمة شيئاً. فليفعل! ولكن [ما أمره به المرحوم العلاّمة] محسوب حسابه بناءً على ارتفاع وعرض المكان. فاستمر المعمار بعمله، وعندما وصل إلى منبسط الدرج، وجد أنَّ طول المنبسط لن يزيد عن ثلاثين سنتيمتراً تقريباً! فكيف سيكون هذا منبسطاً؟! فصار المعمار في وضع حرج أمام البنّائين. لكن المرحوم العلاّمة لم يعاتبه ولم يقل له شيئاً، بل قال لأدعه يستمر في عمله، حتّى إذا ما وصل إلى ذلك المقطع من البناء، فسأقول له: السلام عليكم، أرجو أن تكون بصحة جيدة، وأرجو ألاّ تكون مريضاً! وبعد انتهاء عمله، أصبح المعمار في وضع حرج أمام بقيّة البنّائين. والحال أنَّ المرحوم العلاّمة كان مُحقّاً، فلم يكن موقفه باطلاً.
قال المرحوم العلاّمة: يا سيِّد محسن، رأيت هذا المعمار قد وقف أمامي اليوم وهو يقول: لقد أخجلتني أمام بقيّة البنّائين.
علماً بأنَّ الحق كان مع المرحوم العلاّمة؛ فكان عليك أن تحسب المسافة حساباً جيداً لكي لا تتعرّض لهكذا موقف، فلماذا أسموك معماراً إذاً. ثم إنَّ المرحوم العلاّمة لم يتشاجر معه، بل قال دعه يفعل ما يراه صحيحاً، فلعلّه سيقرأ وِرداً أو ذِكراً لا نعرفه نحن بحيث يعمل على توسعة المكان. فنحن نعلم بوجود إمكانيّة مدَّ الزمان، فلعل هذا المعمار يعرف كيف سيقوم بتوسعة المكان أيضاً. ولكن يبدو بأنَّه لم يكن يمتلك شيئاً من تلك التصرفات! وقد وضع نفسه في موقف مُحرج جعل البنّائين يضحكون عليه. وكان المرحوم العلاّمة قال له: أنا إذ أقول لك عليك أن تبدأ من هذه النقطة، لأنَّني قمت بحساب المسافة جيداً. غير أنَّه كان يجيبه: لا، بل سوف يسير الأمر على ما يرام.
يقول المرحوم العلاّمة: أُخبرت بأنَّني إمّا أن أتوقف في هذا المكان ـ أتلاحظون كيف أنَّ هنالك مراتب متعدّدة ـ أو أن أقوم بجلب رضا هذا الشخص إن أردتُ أن أرتقي إلى مرتبة أسمى؛ وعليّ الآن أن أجلب رضاه. على أنَّه يعلم الكيفية التي سيرضيه بها في نهاية المطاف وسيتم إصلاح الأمر؛ فهذا الأمر مختص به، أمَّا أنا فلا علم لي بهذه المسائل. وخلاصة الأمر فقد قيل له لا بدّ لك من أن تحصل على رضاه، ولن تجتاز هذا المكان ما لم تحصل عليه. نعم، فأنت قد وصلتَ إلى هذا المقام بالفعل، ولكن العبور منه [يتطلّب رضا] هذا الشخص المغموم؛ فعلى الرغم من أنَّك كنت مُحقاً، إلاّ أنَّه كان عليك ألاّ تطرح هذا الأمر عليه بحضور الآخرين. أتلاحظون؟! ولم يُكمِل المرحوم العلاّمة الحديث أكثر من هذا.

    

على السالك أن يحافظ على روحية شهر رمضان

والأمر الذي يجب الالتفات إليه هنا هو: إنَّ كلّ شيء يُعمل هنا يترتب عليه حساب في ذلك الجانب؛ على أنَّ ما ذُكر كان يتعلّق بالأمور الحقّة والمسائل الصحيحة، فكيف بما نرتكبه من الذنوب والتجاوزات؟ فذلك مما لا يلزم التحدّث به من الأساس.
ومحصلة الأمر: علينا ألاّ نغشّ ونخدع أنفسنا في هذه الدنيا، وعلينا الحذر؛ وعلينا الاستفادة من هذا الشهر الكريم بما يفيدنا في بقية الأشهر. الحمد لله فقد كان شهراً مباركاً، وهو واضح من اسمه، فقد عمل على إيجاد تغيِّر وتبدّل واضح في الحالة الروحية للأصدقاء الأعزّاء؛ وعلى الرغم من كوني متخلّفاً عن القافلة وبعيداً عنهم، ولكنَّ علامات تلك النعمة والبركة والرحمة الإلهيّة واضحة؛ وهي تشمل عباد الله حقاً. كما أنَّ ذلك الوعد بإنزال الخيرات والبركات في هذا الشهر ليس وعداً جُزافاً، وعلينا الاستفادة من هذه البركات في الأشهر القادمة، ولا نجعل هذا الشهر يُنسى على أمل قدومه في السنة القادمة، بل علينا أن نعمل على اصطحاب هذا الحال الخاص الذي حصلنا عليه في شهر رمضان إلى بقيّة الأشهر؛ وذلك من خلال سلوكنا وكيفية تغذيتنا وطريقة تكلّمنا وتعاملنا مع الآخرين، ومن كيفية المحافظة على هذه الحالة الروحية التي حصلنا عليها. وكما كان المرحوم العلاّمة يقول: عليكم أن تستقبلوا هذا الضيف الذي حلَّ على قلوبكم، ولا تسمحوا له بالمغادرة المبكرة ولا تطردوه. فعلينا أن نقوم بواجب الضيافة تجاهه، تلك الضيافة المتمثّلة بالمراقبة اللاحقة، فعلى الإنسان أن يُديم المراقبة، وذلك الحال الذي كان عليه في شهر رمضان. ولا يعود إلى ما كان عليه من التصرّف بما تهواه نفسه والاختلاط بأيٍّ كان، بل يستطيع الإنسان المحافظة على استمرار هذا الحال.
يقول الإمام السجاد عليه السلام: مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنّا. (يقول الإمام: أنت وعدَّت بالصفح عن ذلك الذي يُحسن الظنَّ بك)، فيُصبح معلوماً هنا بأنَّه لا شأن لله بذلك الذي يُسيء الظنَّ به. يقول الله: إنَّ حُسنَ ظنِّ العبد بي ومعرفته بكوني إله رءوف وعطوف ورحيم وغفور ومحبته لي وعلاقته بي ـ فالشخص الذي ليس لديه حسن ظنٍّ بشخص آخر يقطع علاقته به، فلا يبقى والحال هذه أيّ ارتباط قلبي بينهما؛ فما الذي سيغفره الله لهكذا شخص وقد قام بنفسه بقطع علاقته بربّه ـ هو بحد ذاته يوجب إعراضي وإغماضي عن أخطائه وزلاّته، ولا يحتاج إلى عفوي بعد هذا. فالمهم هنا هو حُسنُ الظنِّ هذا، وتلك العلاقة بالله، ولا أهميّة لما سوى ذلك. [وذلك بأن يقول الإنسان:] إلهي أنا متوكل عليك وحدك، غير معتمد على علمي أو كمالي أو شخصيتي ومركزي الاجتماعي.

    

عدم استفادة الإنسان من الأعمال والعناوين والمقامات الاجتماعية أمام الله بل من حسن التوكّل عليه

فإن أردنا استعراض ما لدينا أمام الله وقلنا: إلهي أنا أتمتع بمكانة اجتماعية، فسيأتي الجواب: ومن أين أتيت بهذه المكانة الاجتماعية؟ على أنَّك إن كنت قد حصلت عليها ـ وبأي طريق كان ـ فهل ستستطيع الاحتفاظ بها؟ وكم ستنفعك هذه المكانة عندما يأتي ملك الموت لقبض روحك؟
لن تنفعك! وكلّما صحت: يا ملك الموت، أنا رئيس جمهورية! فسيقول لك: اذهب إلى حال سبيلك! وإن قلت: أنا مدير عام، فسيأتيك الجواب: اجلس حيث أنت، فلا يعنيني كونك مديراً عامًّا أو مديراً فرعيّاً، وسواءً كنت مديراً لبيتك أو مديراً لدائرةٍ ما، فكلّ هذا لا يعنيني ولا شأن لي به، فلي شأن بك أنت وحدك، فأنا قادم لقبض روحك. وإن صرخ ونادى قائلاً: أنا ابن سينا أو أنا أفلاطون! يا ملك الموت. فسيقول له: كُن ما تكون، فسواءً لدي أكنت أفلاطون أو كنت بائع خضار، فأنا قادم لأخذك معي، أنا قادم لأفصل روحك عن بدنك؛ فإن كنت ابن سينا، فذلك لا يعنيني بشيء، فسيتم الحساب معك بهذا الشأن فيما بعد! وستُسأل عن علمك هذا، هل كان لغرض أخروي أم لغرضٍ دنيوي؟ هذا لا يهمّني بصفتي ملك الموت، فتكليفي الآن يتمثل في أن أفصل بين نفسك وجسمك، وسأفعل ذلك بك سواءً كنت ابن سينا أو بائع الخضار؛ فلا فرق في ذلك عندي. وقد يقول: إنَّ لي مكانتي الخاصة بي بين هؤلاء القوم، فسيقول له: لا تقلق، فسوف يصل الدور إلى أصدقائك أيضاً. فتفضل أنت معي الآن، وسأتولى أمر الآخرين، فسيأتي الدور على هذا بعد الغد، وعلى ذاك بعد ستة أشهر، والثالث بعد سنة وهكذا سأتولى أمرهم الواحد تلو الآخر؛ سواءً طال هذا الأمد أم قصر، سيصل الدور لجميع أصدقائك، فلا تشغل نفسك بهذا الأمر.
لما كان الإنسان يُحسنُ الظنَّ بالله، فيريد الله منه أنَّ يتخلّى عن جميع تلك الإضافات..
لقد تذكرت الآن تلك الحكاية التي وعدت بنقلها، والتي كنت قد قلت للإخوة بأن يذكِّرونني بها.
كانت لي علاقات مع العظماء، ولقد ارتحلوا عن الدنيا؛ فأنا ابن العلاّمة الطهراني، ولقد ارتحل المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه عن الدنيا مع ما كان عليه وانتهى الأمر. لقد كان عبداً صالحاً وقام بإنجاز كافة المسؤوليات الملقاة على عاتقه، وها هو يحصد نتائجها. فما علاقة كلّ ذلك بي أنا، فملفّي عائد لي وملفّه يعود إليه؛ فكوني ابن له لا يفيدني بشيء أبداً. نعم، ما يفيدني منه هو مقدار تبعيتي للمبادئ التي يؤمن بها، وسلوكي للطريق الذي سلكه؛ فذلك هو الذي يفيدني. أمّا مجرد كوني ابناً له، فذلك يزيد من مسؤوليتي ويجعلها أصعب، ويزيد من تعرضي للمؤاخذة. فكلّ من كان سطح داره أوسع، كان مقدار الثلج المتجمّع عليه أكثر[5]. ومن المؤكّد أنَّ ما اطّلعتُ عليه من صفات وكمال وخصوصيات ومبادئ للمرحوم العلاّمة، لم يطّلع عليه أحد غيري؛ فلذا تكون مسؤوليتي أكبر والواجب الملقى على عاتقي أثقل.
[فلو قلتُ يوم القيامة] بأنَّني ابن العلاّمة، لقيل لي: فلتكن ابنه، ولكن أخبرنا ما الذي جلبته معك أنت؟ وإن قلتُ: أنا أتميّز بمكانة اجتماعية مرموقة، [فسيُقال لي:] ومن أين أتيت بها؟ وكلّما عدَّدتُ وعرضت ما عندي من علم وأمثاله، سيقول لي الله: أتتفاخر بما وهبتك إيّاه أنا؟ فأنا الذي وهبتك العلم، وأنا الذي وهبتك المكانة الاجتماعية، وأنا الذي وهبتك المحبوبية بين الناس، وأنا الذي وهبتك جميع تلك الخصوصيات. فها أنت تتفاخر عليَّ بما وهبتك إيّاه أنا؟! فهل أتيت بكلّ هذا من بيت خالتك؟!
وأمّا ذلك الذي لديه حسنُ ظنٍّ بالله، فهو لا يحسب لكل تلك الأمور حساباً، بل يقول: إلهي أنا لا شيء، أنا فارغٌ، أنا صفر! وهو يقول ذلك حقاً، لا من باب المجاملة. فهو ليس مثلنا الذين نتلفّظ بتلك الكلمات مجاملةً، فالأمر ليس جادّاً بالنسبة لنا.

    

عدم الجدية في تعاملنا مع الواقع

ومثال ذلك ما نقوله للآخرين على المنبر؛ من أنَّ الانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة هو بمثابة تبديل اللباس، فسنتنعّم بنعم الله ونواجه عفوه ورحمته. حتّى إذا ما أصاب أحدنا صداع في رأسه ووجد أنَّ هذا الصداع لا يزول بالمسكّنات، فيراجع الطبيب، ويتبيّن أنَّ سببه وجود ورم في رأسه، عندئذٍ ترى وجهه يصفرّ في تلك اللحظة ويصبح بلون الكركم.
يا عزيزي! ما الذي حصل لك؟! ألم تكن تُخبر الناس بتفاهة الدنيا! ثمّ إنَّه قد تُجرى لك عملية جراحية ويُستأصل هذا الورم وتشفى، أو قد تبقى على قيد الحياة لأربع عشر أو خمس عشر سنة أخرى. فترى الشخص ـ وبمجرد إخباره بوجود ورم في رأسه ـ يرتفع صوته بالويل؛ حتّى أنَّ البعض منهم قد يخرَّ مغشيّاً عليه.
لقد ابتلي أحد الأشخاص المعمّمين المعروفين بنفس هذا البلاء، فأخبره الأطباء بأنَّه سيستمر بالحياة لمدة ستة أشهر أخرى، فما كان من هذا الشخص إلا أن مات بعد شهر واحد؛ لما أصابه من الحزن والغم بعد علمه بمرضه بالسرطان في رأسه، فعجّل بموته خمسة أشهر عن الموعد الذي توقعه الأطباء. فانظر كيف تصرّف هذا الشخص! لقد أغلق عليه باب داره، فلا يفتح الباب لمن يطرقه عليه؛ وكان يُقال له: افتح الباب حتّى نُسلِّم عليك ونسأل عن صحتك! لقد انتهى الأمر بالنسبة له. من هنا يظهر بوضوح زيف وعدم واقعية ما كان يُلقيه هذا الشخص؛ لقد كان كلامه ذلك موجّهاً إلى الآخرين، ولم يكن مؤمناً بحقيقة ما يقول. فلا يصل إلى واقعيّة الأمر حتّى يحصل له ذلك شخصيّاً.
وهذا ما كنَّا نراه في تصرفات المرحوم الوالد؛ حيث كنّا نرى كيف كان يضحك من أعماق قلبه غير مبالٍ، وهو يعلم بأنَّه سيموت بعد سنتين أو ثلاثة. فكان يقول: ما أحلى هذا الأمر يا روحي، فلقد أُمهلت مهلة ليست بالطويلة ـ لم يقل لي المدة بالطبع ـ قال: إنَّ المهلة التي مُنحت لي ليست طويلة، فلم يبق الكثير منها، أتلاحظون ذلك؟ ولقد كان يقول لي في أيامه الأخيرة: عليّ أن أرحل، وعلى الآخرين أن يواصلوا المسيرة، عليكم أنتم أن تقوموا بذلك، أما أنا فأذهب؛ لقد أنجزت الواجبات الملقاة على عاتقي، ولا يجب عليَّ البقاء هنا أكثر من هذا. بل كان وكأنَّه قد أخذ بالعدّ العكسي للأيّام؛ هكذا عشرة، تسعة، ثمانية،...، اثنان، واحد. فكان قد بدأ بالعدّ العكسي [وهو يقول] متى ستنتهي؟ لماذا لا تنتهي هذه السنتين أو الثلاثة؟ لماذا يمتدّ طول هذه الأيّام؟
فهذا نوع آخر من التصرّف، وهو مختلفٌ عن تصرّف الآخرين؛ لأنَّه يلمس الأمور بواقعيّتها؛ وهو مطمئن من المصير الذي سيؤول إليه. فعندما يكون واقع الأمر هو هذا، فلا داعي للقلق والحزن. أرأيتم بعض الأشخاص ـ حتى وإن بلغوا سنَّ الثمانين ـ كيف أنهم يتشبثون بكلّ وسيلة عندما يعلمون بإصابتهم بمرض ما، فترونه يبدأ بالبحث عن دواء، أو عن ساحر أو درويش أو دواء عشبي؛ لكي يتناوله عسى أن يشفى به.
فلو فُرض أنَّك عشت لسنتين أخريين، فماذا بعد ذلك؟ فهل معنى الاستعداد للموت، هو أن تتشبث بكل شيء عندما تُصاب بمرض لتأخير الأجل؟ ولماذا ينبغي أن يتأخر هذا الأمر؟ عليك الذهاب يا هذا، فهذا المقدار من العيش في الدنيا كافٍ لك! فكم تريد أن تبقى في هذه الدنيا؟ فما دام الله قد ابتلاك بهذا المرض، فدع الأطباء يقوموا بواجبهم، فلماذا تتشبث بمختلف الوسائل؟ لأيّ شيء؟ دع الأمور تجري وفقاً لمسيرها الطبيعي، فإن كان لزاماً أن تشفى من المرض، فسوف تشفى؛ وإلاّ فلا.

    

ضرورة التسليم لله وعدم التوسل بالأمور الغريبة لتغيير المشيئة الإلهية

كان هناك شخص.. لو بيّنت الحكاية بتفصيل أكثر فقد يعرفه الأصدقاء؛ لقد ابتلي هذا الرجل بمرض عضال، وكنت مُطّلعاً على هذا الأمر، وكان هذا الشخص ممن يقومون ببعض التصرفات الظاهرية والباطنية. على كلّ حال، فقد عرّفته إلى أحد الأطباء المتخصصين والحاذقين، وأظهر هذا الطبيب لطفاً وتعاوناً بنّاءً معنا؛ وهكذا بدأ هذا الشخص برنامجه العلاجي، وكانت الأدوية وطريقة العلاج التي يتلقاها متوافقةً مع ما تتبنّاه المجامع العلمية العالمية. ولقد استمر الأمر على هذا المنوال، حتّى شعرت بأنَّه بدأ يطرق أبواباً أخرى، فقلت له لأكثر من مرة: استمر على هذا البرنامج العلاجي وتناول هذه الأدوية ما دام الأمر يسير بشكل طبيعي ولم تحصل أيّة مشكلة بعد، فدع الأمور تجري وفقاً لتقدير الله؛ فلماذا تريد ـ وأنت تنفذ هذا البرنامج الطبي ـ السعي وراء أمور أخرى من تلك الأمور الغريبة والعجيبة؟ بل عليك الاستمرار بنفس هذا الطريق الذي ابتدأته.
لكننا نقول شيئاً في الوقت الذي نكون فيه في واديٍ آخر، (اگر لالايي بلدي چرا خودت خوابت نمي‌برد؟[6])، فعندما نرى بأنَّ الأمر قد أصبح جادّاً، تختلف عندها تصرفاتنا بشكل كامل.
وخلاصة الأمر فقد ترك هذا الرجل البرنامج الطبي بالكامل، وانقلب عليه وسار بطريق آخر تماماً. وبعد شهرين مات هذا الشخص. وكنت قد قلت له لا تسلك هذا الطريق، فتقدير الله ومشيئته تقتضي السير بموجب ذلك البرنامج؛ ولعله كان سيبقى حياً حتّى الآن ولسنوات أخرى. أتلاحظون؟
لماذا يحصل كلّ ذلك؟ فإن كان البرنامج الذي يسير بموجبه الإنسان عبارة عن تكليف إلهي، فالله هو المتكفّل ببيان الطريق والأمور للإنسان؛ أمّا إذا أراد الإنسان أن يسبق المشيئة الإلهية، فسيقع في ورطة، وسيفقد ما حصل عليه لحد الآن، وستصبح القضية بشكل آخر.

    

ينبغي أن تكون علاقتنا بالله كعلاقة الطفل بأمه

فعندما يتعامل الله مع شخص ما، فهو لا ينظر إلى علمه ولا نسبه ولا مكانته الاجتماعية ولا عدد أصدقائه، ولا إلى ما يمتلك من أموال ولا ما له من شوكة وجاه، بل يتعامل معه بحد نفسه، وليس له شأن بأيّ أمر آخر. فيجب أن تتحقق تلك الأمور في السالك، فعندما يخاطب الله عليه ألاّ ينظر إلى ما قدَّمت يداه من أعمال البِر، فلا يحسب حساباً لما قام به من هداية أحد من الناس، أو ما قدّمه من خدمة للآخرين؛ بل عليه أن ينظر إلى فقره ومسكنته وأن يرى نفسه صفراً مقابل الله، ولا يرى لنفسه ميزة سوى صِرف وجوده، وهو ما كان يمتلكه عند ولادته؛ كيف أنَّه في ذلك الوقت لم يكن يملك شيئاً من علم أو مال أو ممتلكات أو رئاسة أو قوة. فلم يكن يمتلك شيئاً، بل كان طفلاً، طفلاً بحاجة إلى حليب أمه، لا شيء سوى ذلك. فصِرف الوجود هو عبارة عن تلك الكيفية التي تتمثَّل في علاقة الطفل بأمه. فعندما يريد الطفل الحليب من أمّه، لم يكن يقول لها: أنا ابن سينا؛ وإلاّ لقالت له: أنت لا تستطيع تميِّيز يدك اليمنى من اليسرى! فالطفل ذو الشهر أو العشرة أيام من العمر لا يفهم شيئاً من الأساس. وإن قال: أنا أمتلك فلان مقدار من الأموال، لقالت له: وأين هي أموالك؟ فأنت لا تمتلك حتّى لفافتك التي يجب أن أوفرها لك بنفسي! فأين هي أموالك؟ وإن قال: لي كذا مكانة اجتماعية! لقالت له: وهل تعلم متى ولِدتَ؟ فأيّ مكانة تلك التي تتحدّث عنها؟
فعلاقة الأم بابنها علاقة أمومة فحسب، فهو لا يملك مالاً ولا جمالاً؛ فالطفل عندما يولد لا يكون جميلاً، ثم يبدأ بعدها بالنموّ. فلم يكن يملك شيئاً، فلا رئاسة لديه ولا شوكة؛ والأم تنظر إليه بنظرة الأمومة لا غير، وهي مستعدة لتقديم نفسها فداء له؛ لمجرد أنه ابنها، والطفل لا يعرف سوى أنَّها أمّه فيتعلّق بها. هذه هي طبيعة العلاقة بين كلّ منهما.
يقول الله: عندما تتوجّه إليَّ، فأنا أنظر إليك نظرة تلك الأم لولدها. فأيّ شيء تريد أن تتفاخر به أمامي؟ فإن قلت: أنا ابن فلان؟ فسأقول لك: أنا الذي جعلتك في سلسلة هذا النسب، فمن أنت وماذا كنت؟ وإن قلت: لدي علم كثير! فسأقول لك: وما هي الوسائط التي أوصلت لك هذا العلم، وكيف حصلت عليه، وبأيّ وسيلة؟ وهكذا بالنسبة لسائر الأمور.
وهذا هو ما يتوقّعه الله منَّا. وهذا هو واقع الحال، فلا يمكن أن يكون الأمر بشكل آخر. فعندما يقول الإمام عليه السلام: أنا أُحسِن الظنَّ بك، ولقد بنيتُ حياتي وجميع علاقاتي في هذه الدنيا على هذا الأساس، فعلى أيّ شيءٍ يقوم حُسن الظنِّ هذا؟ هل هو قائم على كوني عالماً، وأنت تُقربني إليك بناءً على هذا العلم الذي أمتلكه؟ أم لأجل أموالي؟ لا يا إلهي، بل اقبلني لأجلي أنا فقط! فأنا عبدك لا غير! اقبلني لأجل هذا يا رب!

    

ما يريده الولي من السالك هو نفسه دون سائر أوصافه

تلك القصة التي كنت أريد أن أحكيها لكم في البداية هي كالآتي: قال أحد الأشخاص: عندما زرت المرحوم العلاّمة في مدينة مشهد للمرة الأولى التي حضرت فيها لديه، سألني عن طبيعة عملي وعلاقاتي وأمثال ذلك، فبيّنتها له؛ فتأمّل قليلاً ثم قال: أقول لك أمراً، وأريد منك أن تحفظه في نفسك ما دامتَ على ارتباطٍ بي؛ احفظ هذا الموضوع مهما طال أمد ارتباطنا ببعضنا، وإن بلغ ما بلغ من السنين.
وهذا الأمر هو: قد يذهب شخصٌ لشراء خروف لغرض ذبحه وتوزيع لحمه بين أقربائه؛ فيجلب الخروف ويذبحه القصاب، ثم يقوم القصاب بسلخ جلده وتقطيع لحمه، ثم يسقّم الشخص اللحم بين الجيران؛ فيُرسل قطعة لهذا الجار وأخرى لذاك، كما يرسل قطعة إلى أبيه وأمه وأخيه ـ كما يحصل ذلك في عيد الأضحى عندما يقومون بتوزيع اللحم ـ ويحتفظ بقطعة من اللحم لنفسه، وهكذا يتم توزيع جميع اللحم، كما يُرسل الرأس والقوائم إلى شخص ما، ويأخذ القصاب الجلد والأمعاء، وبهذا لا يتبقّى من الخروف شيء؛ حيث يقومون بغسل المكان من الدم بالشكل الذي يعود فيه المكان إلى سابق وضعه قبل الذبح.
هنا يقول الخروف بلسان الحال: لقد ذبحتموني ووزّعتم لحمي بين الآخرين وأعطيتم رأسي لشخص وقوائمي لآخر وليَّتي لثالث، وهكذا الأمر بالنسبة لقلبي وبقيّة أجزاء بدني، كما وضع القصاب جلدي على ظهره وذهب به. فماذا عنِّي أنا؟ أين أصبح مصيري في هذا المجال؟ فأنت قد قطعت رأسي وأخذت قلبي، وقمت بتقسيم لحمي بين الآخرين، وأنت أخذت جلدي. لماذا لم يسأل أحدٌ عنِّي أنا؟ فما أخذه البعض أو أُرسل إليه هو أجزاء بدني فقط، لا أنا. فهذا أخذ اليد وذلك أخذ الرجل والآخر الرقبة وذاك الظهر، فقد قمتم بتقسيم كافة أجزاء بدني وأخذها. فعندما ينظر الإنسان إلى المكان لا يرى من الخروف شيئاً. وسيقول الخروف هنا: وماذا عنِّي أنا؟ ما هو مصيري؟
الجواب هو: ليس لأحدٍ إمكانية الوصول إليك. نعم استطعنا التصرّف برأسك؛ حيث قمنا بفصله عن جسمك، ورقبتك حيث قطعناها وأرسلناها إلى أحد الجيران، وفخذك وكتفك وبقيّة أجزاء بدنك، حيث قمنا بتقطيعها وإرسالها إلى الأقارب والإخوان، وكذلك قلبك وكبدك حيث أرسلناها إلى فلان، وأعطينا جلدك إلى القصاب وذهب به. أمّا أنت فلا شأن لأحدٍ بك حتّى تأتي الآن لتقاضينا عن نفسك. إنَّ ما يهتم به الناس هو ليس أنت، بل أجزاء بدنك؛ ولقد قاموا بذبحك من أجل أعضاء بدنك؛ فقاموا بسلخ جلدك واستخراج قلبك وكبدك، بل وحتّى أمعائك.. حيث كانوا يستفيدون من الأمعاء في السابق لخياطة بعض الأشياء بها، أمّا الآن فلا أعلم إن كانوا يفعلون ذلك أم لا. فما فعلوه بك هذا اليوم الذي هو يوم عيد الأضحى كان بسبب أعضاء جسمك، فلا يوجد من يهتمّ بأمرك، إذ لا يستطيع أحد النيل منك.
ثم أردف المرحوم العلاّمة قائلاً: وأنا لا أريد منك سوى نفسك، فليس لي شغل بعلمك، فمهما بلغ هذا العلم، فهو لك؛ ولا بمالك، فلا علاقة لي بما لديك من مال وإن بلغ ما بلغ، فلو أنَّ جميع ما في الأرض عبارة عن أحجار ماسٍ وكانت تحت تصرّفك، فلا يعنيني بشيء أبداً. ولا علاقة لي بمكانتك الاجتماعية، فلو أنَّ الآخرين يمجِّدونك ويسلّمون عليك وينحنون لك احتراماً، ويقعون على أرجلك يقبّلونها وما شابه ذلك، فلا يعنيني من ذلك شيء. كما لا شأن لي بمن يتبعك والمعجبين بك. أنا لا شأن لي بكلّ ذلك. أواضح ذلك؟ إنَّ ما يعنيني هو أنت وحدك.
فإلى أين أتيتَ؟ لقد جئت إلى بيتي، ولم تذهب إلى مكان آخر. فلو أنَّك ذهبت إلى مكان آخر، فلربما كانوا سيُبجِّلونك كثيراً، غير أنَّ هذا التبجيل سيكون لأجل علمك، فسيُسلمون عليك ويمدحوك، وقد يوقّرونك لأجل مالك، فإن لم يكن لديك مال، فلن ينظر إليك أحد، بل لن يردِّوا عليك السلام، وسيفرون منك إن رأوك من مسافة فرسخ. وقد يوقّرونك لأجل مكانتك الاجتماعية، فيعجب الشخص بكثرة الأفراد الذين يظهرون له الاحترام؛ غير أنَّ ذلك كلّه بسبب تلك المكانة الاجتماعية، فإن فقدّتها فلن يحتفي بك حتّى الغراب[7]. وقد يُمجِّدونك لأجل براعتك في الخطابة، فإن أصابك مرض في لسانك، أو ظهر طفح جلدي عليه وعجزت عن الكلام، فسيقول الآخرون: ولماذا نذهب إليه ما دام لا يستطيع الكلام، فلماذا كانوا يأتون؟ كانوا يأتونك لأجل حديثك.
قال له المرحوم العلاّمة: إنَّ جميع تلك العلاقات التي يُقيمها معك الآخرون هي لطمعهم فيك، أمّا أنا فلا شأن لي إلا بك؛ فلو كان العالم بأسره ملكاً لك، فهذا لا يعنيني بشيء؛ كما لا يعنيني كون جميع الناس من المعجبين بك، أو كون جميع علوم الدنيا في قلبك. لي شأنٌ فقط مع شخصك أنت، حيث لا شأن لأحد به.
هكذا تكون علاقة أولياء الله مع الآخرين؛ وهي نفسها العلاقة التي يجب أن تكون بين العبد وربه. وهذا هو الأمر الذي يجب أن يكون محطّ أنظارنا. لقد بيّنت الأمر للإخوة بكلّ صراحة؛ وأعتقد بأنَّه لا ينبغي بيان المطلب بشكل أكثر صراحة من هذا. فلو سعى الإنسان إلى أن يحسب لأمر ما حساباً ولو بمقدار رأس الإبرة في علاقته مع الله، فسيتم الاعتراض عليه في الحال.
نعم هنالك أشياء من هذا القبيل في أماكن أخرى؛ فهناك قد يضعون له رُقية بطول أكثر من المتر تحت أبطه ـ لا أعلم إن كان هنالك رُقية بهذا الحجم أم لا، ولكنَّني أقول هذا عسى الله أن يُوجد مثلها، فما المانع من ذلك ـ نعم يضعون رُقية بوزن المائة كيلوغراماً تحت يده بحيث تبقى يده مرفوعة بموازاة كتفه، كما يضعون رُقية بنفس الوزن تحت يده الأخرى بحيث يصبح الوزن مائتي كيلوغراماً، وقد يضعون رُقية ثالثة تحت قدميه ليصعد عليها، وبذلك يصبح الوزن ثلاثمائة كيلوغراماً. نعم، هكذا يكون الأمر في الأماكن الأخرى. فيُقال هناك: إنَّ لهذا الشخص هذه المكانة، ولذلك الشخص تلك المكانة.

    

الاعتماد على رحمة الله لا على الأعمال التي نقوم بها

لا وجود للرُّقى أو البطيخ في ذلك الطريق الذي يريد الإنسان السير فيه إلى الله؛ ولو كان معك رُقية فسوف يطرحونها منك أرضاً، وإن كان في يدك بطيخة، فسيُقال لك اطرحها أرضاً لتصبح أخفَّ وزناً، فيوجد هنالك ما تشاء، فلا حاجة بك لئن تجلب معك شيئاً من الخارج؛ ولا حاجة لك بالبالون والطائرة الورقية وما شابه ذلك من أمور.
فلا بدَّ من قطع جميع الزوائد وإلقائها خارجاً، ولا يمكن السماح بورود الأوهام والتخيلات لمن يريد السير في هذا الطريق، فإن رأيتم كثرة ورود الأوهام والتخيّلات في بيئة ما، فاعلموا أنه لا مكان لله في تلك البيئة..
أما إذا أردت الحصول على شيء ما، فسيُقال لك: نعم، قم بهذا العمل، فعليك بالصلاة، ولا بدَّ لك من أداء صلاة الليل، وقراءة القرآن والتصدَّق على الفقراء، وعليك تصحيح مسيرك، ويجب أن تكون مُراقباً لأعمالك ولنفسك، عليك القيام بكلّ هذا! ولكن عليك أن تعلم بأنَّك إذا ما أقمت وزناً لأعمالك هذه ولو بمقدار رأس إبرة فسوف تكون خاسراً. نعم ستخسر في ذات الوقت الذي تؤدِّي به تلك الأعمال.
تکیه بر تقوا و دانش در طریقت کافریست
                             راهرو گر صد هنر دارد توکل بایدش[8]

(يقول: يعد الاتكال على التقوى والعلم في السلوك كفراً، فعلى السالك أن يلزم التوكّل على الله وإن كان يتقن مائة فنٍّ وصنعة)

أو حسب بيت الشعر الآخر للشيخ حافظ الشيرازي:
گرچه وصالش نه به کوشش دهند
                             هر قدر ای دل که توانی بکوش[9]

(يقول: إن وصاله وإن كان لا يُنال بالجدِّ والمثابرة، إلاّ أنَّ عليك أيها القلب أن تسعى جهد إمكانك)

فإن أردت أن تُقيم لعملك وزناً، فسوف يُقال لك: ولِم تأخذه بالحسبان؟ فعلى الإنسان أن يعمل، ويقوم بإداء الواجبات المكلّف بها، ولكن عليه ألاّ يحسب لها حساباً.
فهنالك حالتان: فمرةً يقول الإنسان: إلهي ها قد صليت صلاة الليل لأجلك، فكن يقظاً! لا تسجّلها بحساب جاري؛ فأنا الذي صليّتها، أنا الساكن في الزقاق الفلاني، المنزل رقم كذا، وفي الغرفة كذا. ففي هذه الحال يقول له الله: إليك عنِّي، فمن الذي أيقظك لصلاة الليل؟ ومرة أخرى ترى الإنسان يقول: إلهي إن كنتُ قد صليتُ صلاة الليل، فأنتَ الذي وفقتني لها؛ كما أنَّك أنت الذي وفقتني لقراءة القرآن، فلو لم تشأ ذلك، لما تمكّنت منه. فعندها سيقول له الله: أنا أقبل منك الأسلوب الثاني، أمّا الأول فلا.
فليس من الصواب أن يتخلّى الإنسان عن كلّ شيء، ويضع إحدى رجليه فوق الأخرى ويقول: سيحصل ما هو مقرّر أن يحصل، والأمر لا يعتمد على العمل. ولا من الصواب أن يتفاخر بما يقوم به من عمل أمام الله. بل الصواب في الطريق الثالث، وهو: العمل وفقاً للبرامج التي يأمر بها العظماء، وذلك بالالتزام بالمراقبة، والإحسان إلى الآخرين، ومساعدة المحتاجين، ورفع الظلم عن المظلومين، وإرشاد الضالين، وإنجاز الأعمال المكلّف بها وطيّ الطريق؛ ليقول بعد ذلك: إلهي أنا مثل ذلك الخروف الذي لا يمتلك شيئاً، فليس لديه رأس ولا رقبة ولا يد ولا رجل ولا قلب ولا كبد ولا جلد؛ بل أنا متّكل على لطفك وحسن ظنِّي بك. فإن أصبح الأمر كذلك، عندها سيقول الله له: ها قد آن الأوان لإقامة العلاقة بيننا.
فما دام الأمر على هذا المنوال وبهذه البساطة، فلماذا لا يطوي الإنسان الطريق بهذا الشكل؟ ولماذا ننسب المسائل إلى أنفسنا ونقول: لقد تحمّلت الكثير من المشاق في هذا الطريق؟
إن كنت تحمّلت المشاق، فقد تحمّلتها إذاً!
لقد صليت كثيراً، حتّى تعبت!
لا تفعل! بل كان بإمكانك أن تُقلّل من الصلاة. فإن كنت تريد أن تمتنَّ بها عليّ، فلا تفعل من الأساس؛ وإلاّ فأدِ صلاتك.
فيا عزيزي! لو أنك أُصبت بصداع، أو أُصبت بالتهاب ميكروبي، وراجعت الطبيب ووصف لك علاجاً مُضادّاً للالتهابات، أكنت ستتّصل بالطبيب تلفونياً لتخبره وتمنّن عليه؛ بأنَّك قد أخذت الدواء في الساعة المقرّرة. لو فعلت ذلك، لقال لك الطبيب: ولماذا تمنّن بذلك عليَّ؟ فحالتك الصحية هي التي تتحسّن، فلماذا تتصل بي؟ وبعد ثمان ساعات تتصل به مرة أخرى لتقول: وها قد تناولت القرص الثاني والثالث والرابع. فسيقول لك الطبيب: كلّ هذا لمصلحتك أيها المسكين، فحالتك هي التي تتحسّن بذلك. فأنا قد كتبت تلك الوصفة العلاجية لك أنت، أنت الذي سيستفيد منها، فلماذا تتصل بي؟ لماذا تخابرني؟ خابر نفسك، اختلي بنفسك وقلّ لها ذلك، فلماذا تمنّن بذلك عليَّ؟ فبدلاً من أن أقوم أنا بالاتصال بك للاستفسار عمّا إذا كنت قد تناولت الدواء أم لم تتناوله، ها أنت تتصل بي متمننّاً عليّ بتناولك الدواء؟! وتقول لي: ليكن في علمك بأنَّني قد تناولت الدواء الذي وصفته وحقنت الإبرة.
إن كنت قد حقنت الإبرة، فلا بدَّ لك من حقنها! وإن شئت ألاّ تحقنها، فلا تفعل، وسوف تموت؛ ولا تتناول القرص حتّى تموت.
ليس علينا أن نتعامل مع الله بمِنّة. فكلّ من تعامل مع الله بمِنَّة، فقد خَسِر!
نسأل الله تعالى أن يزيد في فهمنا وإدراكنا لهذه المسائل، وألاّ يحرمنا من ذلك النصيب الذي منَّ به على أولياء الله والعرفاء بالله وجعلهم يعملون بموجبه، ولا من ذلك الطريق الذي أوصلهم إلى الهدف والمقصد المطلوب.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد


[1] ـ إحدى فقرات دعاء الإمام السجّاد عليه السلام المعروف باسم دعاء أبي حمزة الثمالي.

[2] ـ إشارة إلى شعر مولانا جلال الدين الرومي: (هفت شهر عشق را عطّار گشت ما هنوز اندر خم يك كوچه ايم‏) يقول: لقد طاف «العطّار» بلاد العشق السبعة، و ما برحنا في منعطف الزقاق الأوّل. [المترجم]

[3] ـ وإنَّ اليومَ عَمَلٌ ولا حِسَاب، وغَداً حَسَابٌ ولا عَمَل. نهج البلاغة، الخطبة 42.

[4] ـ سورة الأنبياء (21)، جزء من الآية 26 والآية 27.

[5] ـ ترجمة للمثل الإيراني: هر كه بامش بيش، برفش بيشتر. [المترجم]

[6] ـ مثل إيراني يُضرب لمن لا يُطابق قوله فعله، وهو مصداق للآية الكريمة (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ). [المترجم]

[7] ـ ترجمة للمثل الإيراني: (کلاغ پر نمی زند)، وهو مثل يُضرب لخلوّ المكان من المارة. [المترجم]

[8] ـ ديوان حافظ، الغزل 276.

[9] ـ ديوان حافظ، الغزل 284.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->